بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
اللهم صل ِ و سلـّم و بارك على الحبيب سيدنا محمد
و على آله و أصحابه أجمعين
ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري و احلل عقدة ً من لساني يفقهوا قولي
شرح التساؤل عن التورية
من جمال لسان العرب و شموله اهتم بتنسيق الكلالم و جعل له فنون و طرق متعددة منها الصريح ومنها ما يختبئ بين السطور و هذا من أجمل ما في لساننا العربي البليغ , حيث أنه جعل لكل شخص ما يتلاءم مع مستواه و اهتماماته . بعض الناس يحبون أن يكون كل شيء واضح و لا يحبون الانشغال كثيرا ً بتحليل الأمور للوصول إلى ما يريده الكاتب و كثير منا من يحب أن يراعي الكاتب أن له عقلا ً يحب إثبات وجوده بالغوص بين أمواج السطور و البحث عن لؤلؤة جميلة تختبئ بين المعاني كالطفلة البريئة التي تختبئ من والدتها و تنتظر منها أن تعثر عليها فتفرح الطفلة و أمها بأن عثرت عليها وحدها . أو كأحجية فيها لغز و كلما كان اللغز أكثر غموضا ً كانت البهجة بالعثور على حلـّه أكبر
شرح معنى كلمة تورية
لابد قبل التبحـّر في أمثلة التورية و شرحها أن نفهم ما هو معنى التورية حتى نعلم عن ماذا نتحدّث !
جاء في الذكر الحكيم
" يتوارى من القوم من سوء ما بـُشّر به " (من الآية 59 من سورة النحل )
" فبعث الله غرابا ً يبحث في الأرض ليريَه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعـَجـَزت ُ أن أكون مثل هذا الغراب فأواري َ سوءة أخي فأصبح من النادمين " (المائدة : 31 )
" يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا ً يواري سوءاتكم و ريشا ً و لباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلـّهم يذ ّكـّرون " ( الأعراف : 26 )
يتوارى من القوم : أي يختبئ منهم
يواري سوءة أخيه : أي يخبئها في التراب " يدفنها "
لباسا ً يواري سوءاتكم : أي يخبئها " يسترها "
فبذلك معنى التورية قادم من وارى يواري أي خبـّأ يخبـّئ
أو أخفى يخفي أو ستر يستر ( أي يضع شيئا ً وراء شيء ) و جميعها تصب في نفس المعنى مع اختلاف الاستخدام و خصائص كل كلمة " فكل كلمة لها استخدامها و خصائصها التي تميّزها عن غيرها "
التورية في البلاغة و أساليب الحديث في لسان العرب الذي كرمه الله عزّ و جل ّ
هي إخفاء معنى أو معلومة أو أمر معيّن خلف المعنى الواضح و الظاهر للقارئ , فعندما يقرأ أحدنا جملة أو بيت شعري أو نص نثري فيه تورية في البداية لا يلاحظ شيء و بخاصة إن كان يقرأ باستعجال أو بشكل سطحي لكنه إذا اهتمّ و لو أقل القليل بالمعنى سوف يكتشف وجود أمور غير واضحة فيما قرأ تثير لديه تساؤلات كثيرة تدعوه لمعاودة القراءة لمحاولة فهم ما التبس عليه
لنتناول المثال الأوّل في درس التورية ( كتاب اللغة العربية للتوجيهي 12 لعام 2009 م صفحة 76 )
1. قال حافظ إبراهيم مداعبا ً صديقـَه أحمد شوقي :
يقولون إنّ الشوق نارٌ و لوعة ٌ فما بال شوقي اليوم َ أصبح باردا ً ؟
لأوّل مرة نقرأ البيت لا نجد فيه أمرا ً مميزا ً غير المعنى التساؤلي الذي طرحه عن مشاعره و شوقه , و لكن إذا تساءلنا عن سبب كلامه و تساؤله و طرحه هذا البيت تبدأ بعض التساؤلات بطرح نفسها . ماذا يقصد و لماذا قال ذلك ؟ و كطلاب نقرأ هذا في مثال مَن ركـّز منـّا على المثال كان ينتظر معرفة المداعبة التي داعب فيها حافظ إبراهيم صديقه أحمد شوقي !
و بما أن المعنى الواضح و الصريح ليس فيه أي مداعبة فهنا تبدأ التساؤلات ! لنلاحظ أن اسم المداعـَب معه هو أحمد شوقي و في البيت فما بال شوقي اليوم أصبح باردا ً إذا التفتنا لكون كلمة بارد تحمل استخداما ً آخر غير الواضح صراحة و هو برود شخص و ليس برود مشاعر و نحن نستخدم مثل هذا في حياتنا اليومية حيث يمازح أحدنا الآخر أو حتى يستهزئ به بإدّعاء أنه بارد " مســقـِـّع " و من ناحية أخرى كلمة شوقي تعني الشوق الذي عندي " الخاص بي " و لكنها يمكن أن تستخدم كاسم و هو مرّجح كثيرا ً هنا كون الشاعر يخاطب بل يداعب صديقه شوقي " أحمد شوقي "
إذن اكتشفنا ما كان يخبئه الشاعر وراء كلماته " يواريه "
نأتي الآن لأسلوب التورية البلاغي الذي يحفظ لصاحب التورية خط الرجعة و يحافظ بها الشاعر حافظ ! على ماء وجهه و موقفه أمام صديقه في حال انزعج من ذلك و أيضا ً حتى يعطي للتورية قوّة فليس من الجميل أن تكون واضحة إلى حد كبير فأين التورية إذن , لذا من أساليب التورية استخدام ما يُسمـّى القرينة و هي كلمة أو معنى يدعم المعنى الصريح , و هنا في هذا المثال في صدر البيت " المقطع الأول منه " يتحدّث الشاعر عن الشوق فكلمة الشوق هي قرينة استخدمها ليثبت بها المعنى الصريح و يبعد الأنظار لأوّل نظرة عن المعنى المخبـّأ
فإذا راجعه أحد ٌ في المعنى الثاني يشير إلى القرينة و يتهرّب بها عن التورية *_^
إلى هنا أرجو أن تكون التورية قد نزلت من علياء الصعوبة إلى علاء الفهم
و في كلامي تورية أتمنى من المقصود بها لفت النظر إليها و لو بمجرد كلمات بسيطة لمزيد من الفائدة
اللهم أستغفرك و أتوب إليك فما أنا إلا عبدٌ من سماته الخطأ و إنسان لكثرة النسيان فأستغفرك إن أخطأت أو نسيت أمرا ً هاما ً
اللهم صل ِ و سلـّم و بارك على الحبيب سيدنا محمد
و على آله و أصحابه أجمعين